سورة الأحقاف - تفسير تفسير البيضاوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأحقاف)


        


{حم تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز الحكيم مَا خَلَقْنَا السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بالحق} إلا خلقاً ملتبساً بالحق وهو ما تقتضيه الحكمة والمعدلة، وفيه دلالة على وجود الصانع الحكيم، والبعث للمجازاة على ما قررناه مراراً. {وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} وبتقدير أجل مسمى ينتهي إليه الكل وهو يوم القيامة، أو كل واحد وهو آخر مدة بقائه المقدرة له. {والذين كَفَرُواْ عَمَّا أُنذِرُواْ} من هول ذلك الوقت، ويجوز أن تكون {ما} مصدرية. {مُّعْرِضُونَ} لا يتفكرون فيه ولا يستعدون لحلوله.
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السموات} أي أخبروني عن حال آلهتكم بعد تأمل فيها، هل يعقل أن يكون لها في أنفسها مدخل في خلق شيء من أجزاء العالم فتستحق به العبادة. وتخصيص الشرك بالسموات احتراز عما يتوهم أن للوسائط شركة في إيجاد الحوادث السفلية. {ائتونى بكتاب مّن قَبْلِ هذا} من قبل هذا الكتاب يعني القرآن فإنه ناطق بالتوحيد. {أَوْ أثارة مّنْ عِلْمٍ} أو بقية من علم بقيت عليكم من علوم الأولين هل فيها ما يدل على استحقاقهم للعبادة أو الأمر به. {إِن كُنتُمْ صادقين} في دعواكم، وهو إلزام بعدم ما يدل على ألوهيتهم بوجه ما نقلاً بعد إلزامهم بعدم ما يقتضيها عقلاً، وقرئ: {إثارة} بالكسر أي مناظرة فإن المناظرة تثير المعاني، و{أثرة} أي شيء أوثرتم به وأثرة بالحركات الثلاث في الهمزة وسكون الثاء فالمفتوحة للمرة من مصدر أثر الحديث إذا رواه والمكسورة بمعنى الأثرة والمضمومة اسم ما يؤثر.
{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ} إنكار أن يكون أحد أضل من المشركين حيث تركوا عبادة السميع البصير المجيب القادر الخبير إلى عبادة من لا يستجيب لهم لو سمع دعاءهم، فضلاً أن يعلم سرائرهم ويراعي مصالحهم. {إلى يَوْمِ القيامة} ما دامت الدنيا. {وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غافلون} لأنهم إما جمادات وإما عباد مسخرون مشتغلون بأحوالهم.
{وَإِذَا حُشِرَ الناس كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَاءً} يضرونهم ولا ينفعونهم. {وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كافرين} مكذبين بلسان الحال أو المقال. وقيل الضمير للعابدين وهو كقوله تعالى: {والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بَيّنَاتٍ} واضحات أو مبينات. {قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقّ} لأجله وفي شأنه، والمراد به الآيات ووضعه موضع ضميرها ووضع {الذين كَفَرُواْ} موضع ضمير المتلو عليهم للتسجيل عليها بالحق وعليهم بالكفر والانهماك في الضلالة. {لَمَّا جَاءهُمْ} حينما جاءهم من غير نظر وتأمل. {هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ} ظاهر بطلانه.
{أَمْ يَقُولُونَ افتراه} إضراب عن ذكر تسميتهم إياه سحراً إلى ذكر ما هو أشنع منه وإنكار له وتعجيب.
{قُلْ إِنِ افتريته} على الفرض. {فَلاَ تَمْلِكُونَ لِى مِنَ الله شَيْئاً} أي إن عاجلني الله بالعقوبة فلا تقدرون على دفع شيء منها فكيف أجترئ عليه وأعرض نفسي للعقاب من غير توقع نفع ولا دفع ضر من قبلكم. {هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ} تندفعون فيه من القدح في آياته. {كفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} يشهد لي بالصدق والبلاغ وعليكم بالكذب والإِنكار، وهو وعيد بجزاء إفاضتهم، {وَهُوَ الغفور الرحيم} وعد بالمغفرة والرحمة لمن تاب وآمن وإشعار بحلم الله عنهم مع عظم جرمهم.
{قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مّنَ الرسل} بديعاً منهم أدعوكم إلى ما لا يدعون إليه، أو أقدر على ما لم يقدروا عليه، وهو الإِتيان بالمقترحات كلها ونظيره الخف بمعنى الخفيف. وقرئ بفتح الدال على أنه كقيم أو مقدر بمضاف أي ذا بدع. {وَمَا أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلاَ بِكُمْ} في الدارين على التفضيل إذ لا علم لي بالغيب، و{لا} لتأكيد النفي المشتمل على إما يفعل بي {وَمَا} إما موصولة منصوبة أو استفهامية مرفوعة. وقرئ: {يَفْعَلُ} أي يفعل الله. {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَىَّ} لا أتجاوزه، وهو جواب عن اقتراحهم الإِخبار عما لم يوح إليه من الغيوب، أو استعجال المسلمين أن يتخلصوا من أذى المشركين. {وَمَا أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ} من عقاب الله. {مُّبِينٌ} بين الإِنذار بالشواهد المبينة والمعجزات المصدقة.


{قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله} أي القرآن. {وَكَفَرْتُمْ بِهِ} وقد كفرتم به، ويجوز أن تكون الواو عاطفة على الشرط وكذا الواو في قوله: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إسراءيل} إلا أنها تعطفه بما عطف عليه على جملة ما قبله، والشاهد هو عبد الله بن سلام وقيل موسى عليه الصلاة والسلام وشهادته ما في التوراة من نعت الرسول عليه الصلاة والسلام. {على مِثْلِهِ} مثل القرآن وهو ما في التوراة من المعاني المصدقة للقرآن المطابقة له، أو مثل ذلك وهو كونه من عند الله. {فَئَامَنَ} أي بالقرآن لما رآه من جنس الوحي مطابقاً للحق. {واستكبرتم} عن الإِيمان. {إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} استئناف مشعر بأن كفرهم به لضلالهم المسبب عن ظلمهم، ودليل على الجواب المحذوف مثل ألستم ظالمين.
{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ} لأجلهم. {لَّوْ كَانَ} الإِيمان أو ما أتى به محمد عليه الصلاة والسلام. {خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} وهم سقاط إذ عامتهم فقراء وموال ورعاة، وإنما قاله قريش وقيل بنو عامر وغطفان وأسد وأشجع لما أسلم جهينة ومزينة وأسلم وغفار، أو اليهود حين أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه. {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ} ظرف لمحذوف مثل ظهر عنادهم وقوله: {فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ} مسبب عنه وهو كقولهم: أساطير الأولين. {وَمِن قَبْلِهِ} وَمَن قَبل القرآن وهو خبر لقوله: {كِتَابُ موسى} ناصب لقوله: {إَمَامًا وَرَحْمَةً} على الحال. {وهذا كتاب مُّصَدّقٌ} لكتاب موسى أو لما بين يديه وقد قرئ به. {لّسَاناً عَرَبِيّاً} حال من ضمير {كِتَابٌ} في {مُّصَدّقُ} أو منه لتخصصه بالصفة، وعاملها معنى الإِشارة وفائدتها الإِشعار بالدلالة على أن كونه مصدقاً للتوراة كما دل على أنه حق دل على أنه وحي وتوقيف من الله سبحانه وتعالى. وقيل مفعول {مُّصَدّقُ} أي يصدق ذا لسان عربي بإعجازه. {لّيُنذِرَ الذين ظَلَمُواْ} علة {مُّصَدّقُ}، وفيه ضمير الكتاب أو الله أو الرسول، ويؤيد الأخير قراءة نافع وابن عامر والبزي بخلاف عنه ويعقوب بالتاء {وبشرى لِلْمُحْسِنِينَ} عطف على محله.
{إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا} جَمعوا بين التوحيد الذي هو خلاصة العلم والإِستقامة في الأمور التي هي منتهى العمل، وثم للدلالة على تأخر رتبة العمل وتوقف اعتباره على التوحيد. {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} من لحوق مكروه. {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} على فوات محبوب، والفاء لتضمن الاسم معنى الشرط.
{أُوْلَئِكَ أصحاب الجنة خالدين فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} من اكتساب الفضائل العلمية والعملية، وخالدين حال من المستكن في أصحاب وجزاء مصدر لفعل دل عليه الكلام أي جوزوا جزاء.
{وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} وقرأ الكوفيون {إحساناً}، وقرئ: {حَسَنًا} أي إيصاء {حَسَنًا}. {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} ذات كره أو حملاً ذا كره وهو المشقة، وقرأ الحجازيان وأبو عمرو وهشام بالفتح وهما لغتان كالفُقُر والفَقُر. وقيل المضموم اسم والمفتوح مصدر. {وَحَمْلُهُ وفصاله} ومدة {حَمْلُهُ وفصاله}، والفصال الفطام ويدل عليه قراءة يعقوب {وفصله} أو وقته والمراد به الرضاع التام المنتهى به ولذلك عبر به كما يعبر بالأمد عن المدة، قال:
كُلُّ حَيٍّ مُسْتَكْمِل عِدَّةَ العُم *** رِ وَمَود إِذَا انْتَهَى أَمَدّهُ
{ثَلاَثُونَ شَهْراً} كل ذلك بيان لما تكابده الأم في تربية الولد مبالغة في التوصية بها، وفيه دليل على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر لأنه إذا حط منه الفصال حولان لقوله تعالى: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة} بقي ذلك وبه قال الأطباء ولعل تخصيص أقل الحمل وأكثر الرضاع لانضباطهما وتحقق ارتباط حكم النسب والرضاع بهما. {حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} إذا اكتهل واستحكم قوته وعقله. {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} قيل لم يبعث نبي إلا بعد الأربعين. {قَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى} ألهمني وأصله أولعني من أوزعته بكذا. {أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وعلى وَالِدَىَّ} يعني نعمة الدين أو ما يعمها وغيرها، وذلك يؤيد ما روي أنها نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه لأنه لم يكن أحد أسلم هو وأبواه من المهاجرين والأنصار سواه. {وَأَنْ أَعْمَلَ صالحا ترضاه} نكرة للتعظيم أو لأنه أراد نوعاً من الجنس يستجلب رضا الله عز وجل. {وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرّيَّتِى} واجعل لي الصلاح سارياً في ذريتي راسخاً فيهم ونحوه قوله:
وَإِنْ تَعْتَذِرْ بالمَحل عَنْ ذِي ضُرُوعِهَا *** إِلَى الضَيْفِ يَجْرَحُ فِي عَرَاقِيبهَا نَصْلي
{إِنّى تُبْتُ إِلَيْكَ} عما لا ترضاه أو يشغل عنك. {وَإِنّى مِنَ المسلمين} المخلصين لك.


{أُوْلَئِكَ الذين نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ} يعني طاعاتهم فإن المباح حسن ولا يثاب عليه. {وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيَّئَاتِهِمْ} لتوبتهم، وقرأ حمزة والكسائي وحفص بالنون فيهما. {فِى أصحاب الجنة} كائنين في عدادهم أو مثابين أو معدودين فيهم. {وَعْدَ الصدق} مصدر مؤكد لنفسه فإن يتقبل ويتجاوز وعد {الذى كَانُواْ يُوعَدُونَ} أي في الدنيا.
{والذى قَالَ لوالديه أُفّ لَّكُمَا} مبتدأ خبره {أولئك}، والمراد به الجنس وإن صح نزولها في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه، فإن خصوص السبب لا يوجب التخصيص. وفي {أُفّ} قراءات ذكرت في سورة (بني إسرائيل). {أَتَعِدَانِنِى أَنْ أُخْرَجَ} أبعث، وقرأ هشام {أتعداني} بنون واحدة مشددة. {وَقَدْ خَلَتِ القرون مِن قَبْلِى} فلم يرجع أحد منهم. {وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ الله} يقولان الغياث بالله منك، أو يسألانه أن يغيثه بالتوفيق للإِيمان. {وَيْلَكَ ءامِنْ} أي يقولان له {وَيْلَكَ}، وهو الدعاء بالثبور بالحث على ما يخاف على تركه. {إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هذا إِلاَّ أساطير الأولين} أباطيلهم التي كتبوها.
{أُوْلَئِكَ الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول} بأنهم أهل النار وهو يرد النزول في عبد الرحمن لأنه يدل على أنه من أهلها لذلك وقد جب عنه إن كان لإسلامه. {فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ} كقوله في أصحاب الجنة. {مّنَ الجن والإنس} بيان للأمم. {إِنَّهُمْ كَانُواْ خاسرين} تعليل للحكم على الاستئناف.
{وَلِكُلّ} من الفريقين. {درجات مّمَّا عَمِلُواْ} مراتب من جزاء ما عملوا من الخير والشر، أو من أجل ما عملوا وال {درجات} غالبة في المثوبة وها هنا جاءت على التغليب. {وَلِيُوَفّيَهُمْ أعمالهم} جزاءها، وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي وابن ذكوان بالنون. {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} بنقص ثواب وزيادة عقاب.
{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار} يعذبون بها. وقيل تعرض النار عليهم فقلب مبالغة كقولهم: عرضت الناقة على الحوض. {أَذْهَبْتُمْ} أي يقال لهم أذهبتم، وهو ناصب اليوم وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب بالاستفهام غير أن ابن كثير يقرؤه بهمزة ممدودة وهما يقرآن بها وبهمزتين محققتين. {طيباتكم} لذاتكم. {فِى حياتكم الدنيا} باستيفائها. {واستمتعتم بِهَا} فما بقي لكم منها شيء. {فاليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون} الهوان وقد قرئ به. {بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِى الأرض بِغَيْرِ الحق وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ} بسبب الاستكبار الباطل والفسوق عن طاعة الله، وقرئ: {تَفْسِقُونَ} بالكسر.

1 | 2